|
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||||||||||
|
|||||||||||
بحث مكانة العقل في الإسلام
عنوان البحث
مكانة العقل في الإسلام إعداد الطالب / رقم السجل المدني : جوال / المستوى : إشراف الدكتور أو الاستاذ / 1432/1433 هـ خطة البحث • أولا ً : المقدمة • ثانياً : سبب اختيار الموضوع • ثالثاً منهجي في البحث • رابعاً : تقسيم البحث إلى عدة مباحث تحت كل مبحث عدة مطالب المبحث الأول / مفاهيم العقل المطلب الثاني / مفهوم العقل في القرآن والسنة المطلب الثالث / العقل في الإسلام مقدمة الحمد لله رب العالمين ، خلق الإنسان ووهبه العقل الذي ميزه به عن سائر الحيوان ، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو ذو الفضل والإحسان ، وأشهد ان محمدا عبده ورسوله أنزل عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا ...... أما بعد : فمما كرم الله به هذا الإنسان العقل الذي يمتاز به عن الحيوان ، ويميز به بين الخير والشر والضار والنافع ، فإذا فقد العقل لم يكن بينه وبين الحيوان فرق ، بل يكون الحيوان أحسن حالا منه ،لأن الحيوان ينتفع به ، والإنسان الذي فقد عقله لا ينتفع به وإنما يصبح عالة على غيره ، وبالعقل يفكر الإنسان في آيات الله ويتفقه به وبالعقل يخترع وينتج . والعقل يحمل الإنسان على ان يتحلى بالفضائل ويتخلى عن الرذائل ، ويبذل الندى ويكف الأذى .فموضوع مكانة العقل في الاسلام موضوع هام جدير بالبحث والاهتمام وسوف نتطرق في بحثنا هذا الى عدة أمور تخص العقل نسأل الله العون والسداد وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين . سبب اختياري موضوع مكانة العقل في الإسلام تم اختياري لموضوع مكانة العقل في الإسلام لما له من أهمية في الشريعة الإسلامية لاسيما في هذا العصر الذي قد كثر فيه الفتن من الشبهات والشهوات , ونسأل الله لنا وللمسلمين الثبات على الحق . وان دراسة هذا الموضوع يتيح لي الاطلاع والاستفادة على مؤلفات العلماء في هذا الموضوع سواء السلف الصالح أو من بعدهم أو العلماء المعاصرين وقد حصل ذلك والحمد لله على ما عندي من التقصير والله المستعان منهج البحث أولا :- استشارة بعض الإخوان من طلبة العلم الشرعي . ثانياً : زيارة بعض المكتبات الخاصة والعامة وجلب بعض المراجع في الموضوع . ثالثاً : البحث في المراجع وجمع ما يخص الموضوع من بطون الكتب ونقله إلى مسودة خاصة بالبحث. رابعاً : تقسيم البحث إلى عدة مباحث وتحت كل مبحث عدة مطالب وتحت كل مطلب عدة أمور لتسهيل البحث وترتيبه والإلمام به . خامساً : تنسيق البحث ثم مراجعته المراجعة النهائية وتجهيزه للإرسال . المبحث الأول مـفـاهيـــم الـعـقـل المطلب الأول : مفهوم العقل في اللغة العربية : العقل مصدر عقل : أي ربط و استمسك , تقول : عقل بطن المريض بعدما استطلق : استمسك , و اسم الدواء : العقول .(1) وقال ابن منظور : " العَقْل : الحِجْرُ و النُّهَى , ضِدَ الحُمْق , و الجمع : عُقُولٌ ". ) و ورد العَقْل بمعنى الَمَلْجَأ , و المعقل : الملجأ , و به سمي الرَجُل . " و رجُلٌ عاقل : و هو الجامع لأَمْرِه و رَأْيه , أُخِذَ من عَقَلْتُ البَعِيرَ : إذا جَمَعْتَ قَوَائِمَهُ , و قيل : العاقل : الذي يَحْبِسُ نَفْسَه و يَرُدُّهَا عن هَوَاهَا , أَخْذًا من قولهم : اعْتَقَلَ لِسَانُه : إذا حُبِسَ و مُنِعَ الكَلَـامَ . "و عَقَلَ البَعِيرَ , يَعْقِلُهُ عَقْلًـا , و عَقَلَه و اعْتَقَلَهُ : ثنَى وظيفة مع ذِراعه , و شَدَّهُما جميعًا في وسط الذراع , و كذلك الناقة , و ذلك الحَبْلُ هو العِقَال , و الجمع : عُقُل " و أطلق العقل على الدِيَة التي تُدفع لأهل المقتول فيقال : عَقَلَ القَتِيلَ , يَعْقِلُه عَقْلًـا : وَدَاهُ . وعَقَلَ عنه : إذا أَدَى عنه الدِيَة , و أ صل ذلك أن الدية كانت إِبِلًـا تُعْقَلُ بأَفْنِية البُيوت , ثم كَثُر فصار كل دِيةٍ عَقلًـا , و إن كانت دراهم أو دنانير " و العَقِيلة من النِّسَاء : المرأة المُخَدَّرَة , المحبوسة في بيتها , وجمعها : عََقائِل . و سمّيت المرأة بذلك ؛ لأنها تُحرس و تُصان و تُمنع . و عَقِيلَة كل شيء : أَكْرَمَه و يطلق العقل على قُوّةِ الحُجَّة فيقال : " عَاقَلْتُه , فَعَقَلْتُه , أي غلبته بالعقل , و تَعَقَّلَ : تكلَّف العقل " " و عَقَلَ الشَّيء , يَعْقِلُه عَقَلًـا : فَهِمَهُ , و يقال : أَعْقَلْتُ فلانًا : أي صَيَّرتُه عَاقِـلاً " وبناءً على ما تقدم : " فالعقل في مدلول لفظه العام ملكة يناط بها الوازع الأخلاقي , أو المنع عن المحظور و المنكر , ومن هنا كان اشتقاقه من مادة (عقل ) التي يؤخذ منها العِقَالُ , و تكاد شهرة العقل بهذه التسمية أن تتوارد في اللغات الإنسانية الكبرى التي يتكلم بها مئات الملايين من البشر " أسماء العقل : للعقل أسماء عديدة , فمن أسمائه : اللُبّ , و الحِجَا , و الحِجْر , و النُّهَى . و لا يخفى أن لهذه الأسماء ارتباطاً بالمعاني التي تقدم ذكرها : فقد سمّي ( عقلاً) لأنه يَعْقِلُ صاحبه عن ركوب الشهوات , و إتيان المكاره و المضار . و سمّي (لبـًّا) لأنه صَفوة الروح ولبُـابه و خالصه , و لبُّ كل شيء خالصه و محضه . و سمّي (الحِجَـا) لإصابة الحجّة به , والاستظهار على جميع المعاني بصحته , ومنه يقال : حَاجَّيتُهُ فَحَجَجْتُهُ : إذا نَاظَرتُه فَأَبْكَمتُه . وسمّي (حِجْرًا) لأنه يَحْجُرُ عن رُكُوب المناهي , و منه يقال : حَجَرَ الحاكم على فلان , و حَجَرَ الوالد على ولده : إذا منعه . والإنسان إذا كان ضابطًا لنفسه , رابطًـا ِلجَأْشِه , فهو ذو حِجْر , و كذلك يقال للحِصْن حِجْر , لأنه يتُحَصَن به . وسمّي ( النُّهَى) لأنه ينتهي إليه الذكاء و المعرفة و النظر , و هو نهاية ما يمنح العبد من الخير المؤدي إلى صلاح الدنيا و الآخرة . المطلب الثاني : مفهوم العقل في القرآن و السنة : أولاً : العقل في القرآن الكريم : - مادة (ع ق ل) في القرآن الكريم جاءت مادة (ع ق ل ) في القرآن الكريم 49(تسعا و أربعين مرة) , كلها – إلّا واحدة - جاءت بصيغة الفعل المضارع , و خصوصا ما اتصل به واو الجماعة : (تعقلون) و (يعقلون) . ففعل (تعقلون) تكرر 24مرة , و فعل (يعقلون) تكرر 22مرة , و فعل (عقل) و (نعقل) و(يعقل) جاء كل منها مرة واحدة .صيغة (أ فلا تعقلون) : ومن أبرز ما جاء هنا : صيغة الاستفهام الإنكاري الدالة على التحريض و الإلهاب , تلك الصيغة المنكرة الملهبة المحرضة { أَفَلاَ تَعْقِِلُونَ }؟ وقد ذكرت في القرآن ثلاث عشرة مرة . منها : قوله في خطاب بني إسرائيل و تقريعهم : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِّرِ وَ تَنْسَونَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }( .فإن عمل الإنسان بضد ما يعلم , و ضد ما يأمر به غيره , لا يصدر عن إنسان سوي في عقله , ناضج في فكره , إنما هو ضرب من الجنون . ومنها: قوله في محاجة أهل الكتاب في شأن إبراهيم و محاولة ضمه إليهم بوصفه يهوديا أو نصرانيا : { أفلا تَعْقِلُونَ.{ فكيف ينسب السابق إلى اللاحق , و المتقدم إلى المتأخر ؟ إلا عند من فقد عقله . كلمة ( تعقلون ) في القرآن : و تكررت هذه الكلمة مرات في القرآن , مرتبطة ب"الآيات" التي بينها الله تعالى و وجوب تعقلها , سواء أكانت آيات منزّلة مسطورة , أم آيات مخلوقة منظورة , و يبدو من السياق في معظمها أن المقصود بها الآيات المنزلة من الله تعالى , كما في قو له سبحانه : }كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }}قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } }إِنَّآ أَنْزَلْنَـاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَّعَلَكُمْ تَعْقِلُونَ } فقد أنزل الله القرآن بلسانهم ليعقلوه بأفئدتهم , لا لمجرد أن يسمعوه بآذانهم , دون أن يفكروا فيه و يتدبَّروه . كلمة ( يعقلون ) مثبتة و منفية : وجاءت هذه المادة بصيغة فعل المضارع للجمع الغائب (يعقلون) 22(اثنتين و عشرين مرة , المنفية منها (لا يعقلون) ذمٌّ للذين لا يستخدمون عقولهم التي وهبهم الله تعالى ,بل يعطلونها ؛ جمودًا أو تقليدًا أو جحودًا . منها : قوله تعالى في الرد على المقلدين لآبائهم في شركهم : { أَوَلَوْ كَانَ ءَابَآؤُهُم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ } وقوله في تصوير غباء هؤلاء : { وَمَثَلُ اٌلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ اَلَّذِي يَنْعِقُ بِمًا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَ نِدَآءً صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } فهم أشبه بالقطيع من الأنعام التي ينعق فيها راعيها , لا تسمع منه إلا صوتًا , ولا تعي حقيقة ما يقول , فقد عطلوا أدوات المعرفة عندهم , فلا تسمع آذانهم الحق , ولا تنطق ألسنتهم به , ولا تراه أعينهم , فهم إذن صم بكم عمي فهم لا يعقلون . و أما المُثبت من هذه الصيغة (يعقلون ) فجاء في مقام التأمل لآيات الله الكونية , المبثوثة في عوالم الأفلاك و الجماد و النبات و الحيوان . نقرأ في ذلك قوله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَمَـاوَاتِ وَ اْلأَرْضِ وَاَخْتِلاَفِ اللَّيل وَ اَلنَّهَارِوَ اَلفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النّاسَ وَمَآ أَنْزَلَ الله مِن السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِيَـاح وَ السَّحَابِ المُسَخَّر بَينَ السَّمَآءِ وَ الأَرْضِ لأَََََََيَـاتٍ لِقَومٍ يَعْقِلونَ }ِ وننتقل من الحاضر بما فيه إلى الماضي و إلى التاريخ : ونقرأ تعقيبًا على قصة لوط : { وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهآ ءَايَةً بَيِّنَةً لِقَومٍ يَعْقِلُونَ } . فالعقل مطلوب هنا للاعتبار بالتاريخ و أيام الله فيه . وبهذا غطَّى ( العقل) كل الجوانب: الكون: علويه وسفليه , الإنسان: بحاضره و ماضيه , آيات الله :الكونية و التنزيلية , فمن لم يستخدم عقله في هذه النواحي كلها كان خليقًا ألا يهتدي إلى الحق , وأن يسير في ركاب أهل الضلال و الإضلال , و أن يقول مع أهل الشقاء في النار يوم القيامة ما حكاه الله عنهم : { وَقَالُوا لَو كُنَا نَسْمَعُ أَو نَعْقِلُ مَا كُنَا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ, فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِم فَسُحْقًا لأَصْحَبِ السَّعِيرِ} مرادفات العقل في القرآن الكريم : لم يرد لفظ ( العقل ) مصدرًا قط في كتاب الله عزّ و جلّ , و إنما وردت مرادفات له : كالألباب , و النُّهى , و الحِجْر, منسوبة للإنسان , فقد خاطب الله أصحاب العقول بلفظ : أولي الألباب : في( 16) ستة عشر موضعًا من القرآن (4) , ومن ذلك : قوله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَـاوَاتِ وَ الأَرْضِ وَ اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَ النَّهَار لآيَاتٍ لأُوليِ الأَلْبَابِ} و قوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا } قال الراغب الأصفهاني : " اللُبّ : العقل الخالص من الشوائب , وسمي بذلك لكونه خالص ما في الإنسان من معانيه , كاللُّّّّّباب و اللُّب من الشيء . وقيل : هو ما زكى من العقل , فكل لُبٍّ عقل , وليس كل عقل لبـًّا . و لهذا علّق الله تعالى الأحكام التي لا تدركها إلا العقول الذكيّة بأولي الألباب "(1) . " (اللبُّ) الذي يخاطبه القرآن وظيفته عقلية , تحيط بالعقل الوازع و العقل المدرك و العقل الذي يتلقى الحكمة و يتعظ بالذكر و الذكرى , و خطابه لِـأُنَاسٍ من العقلاء , لهم نصيب من الفهم و الوعي أَوْفَر من نصيب العقل الذي يكــفّ صاحبه عن السوء , ولا يرتقي إلى منزلة الرسوخ في العلم , و التمييز بين الطيّب و الخبيث , و التمييز بين الحسن و الأحسن في العقول"(2) . ونجد كلمة ( النّهى ) وردت بمعنى العقل في موضعين من سورة ( طه ) : قوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُولِي النُّهَى }(3)(4) . " و النُّهية هي العقل الناهي عن القبائح , جمعها نُهى , و تنهية الوادي : حيث ينتهي إليه السيل "(5) , لذا خاطب الله الإنسان بالانتهاء عن المعاصي في مواضع عدة من القرآن(6) , لأن العقل هو الذي يكبح جماح النفس عن التردي في المهالك . وفي موضع من القرآن سُمّي العقل ( حِجْرًا ) , و ذلك قوله تعالى : { هَل فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ }(7) , قال الراغب الأصفهاني : " فقيل للعقل حِجْر لكون الإنسان في منع منه , مما تدعوا إليه نفسه "(8) , و قال ابن كثير : { هَل فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْر } أي لذي عقل و لب و حجا , و إنما سمي العقل حجرًا لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال و الأقوال "(9) . وورد لفظا : (الحُكم ) و ( الحِكْمة ) بمعنى الفهم و العقل , في أكثر من موضع في القرآن , و منها : قوله .تعالى : { و آتَيْنَـهُ الحُكْمَ صَبِيًا }(10) , وذلك في يحي و قوله تعالى : { وَ لَقَد آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَََ }(11) . و ذكر يحي بن سلاّم أن المراد ب( الحُُُكم ) و( الحِِِِِكمة ) في هذه الآيات:العقل والفهم . نجد الكثير من الآيات في القرآن الكريم تدعوا إلى النظر و التفكير و الاعتبار , و كلها تمتّ إلى العقل بسبب أو بآخر , ومن ذلك : قوله تعالى : { وَمِن آيَاتِه أن خَلَقَ لَكُم من أَنْفُسِكُم أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيهَا وَ جَعَلَ بَينَكُم مَوَدةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَرُونَ }(1) . و قوله تعالى : { قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ }(2) . و قوله تعالى : { يُقَلِبُ اللهُ اللَّيلَ وَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبرَةً لأُولِي الأَبصَارِ }(3) . و لا يخفى على كل عاقل من الارتباط الوثيق بين التفكر و النظر والاعتبار, يقول الراغب الأصفهاني : " الفِكرة : قوة مُطرِقة للعلم إلى المعلوم , و التفكر : جَولاَن تلك القوة بحسب نظر العقل , و ذلك للإنسان دون الحيوان , ولا يمكن أن يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ... و يستعمل الفكر في المعاني , و هو فَرْك الأمور و بحثها , طلبًا للوصول إلى حقيقتها " و يشير القرآن إلى العقل بمعانيه المختلفة , مستخدمًا لذلك كل الألفاظ التي تدل عليه , أو تشير إليه من قريب أو بعيد فسمّي : تذكرًا و نظرًا و اعتبارًا و تدبرًا و استبصارًا , و هذه المعاني متقاربة , تجتمع في شيء و تفترق في آخر . فسمّي ( تفكُّرًا ) : لأنه استعمال الفكرة في ذلك و احضارها عنده , و سمّي ( تذكرًا ) لأنه إحضار للعلم الذي يجب مراعاته , بعد ذهوله و غيبته عنه , و منه قوله تعالى : { إِنَّ الّذِينَ اتّقَوا إِذَا مَسَّهُم طَائِفٌ ِمن الشَّيطَانِ تَذَكَّروا فَإِذَا هُم مُبْصِرُونَ } و سمّي ( نظرًا ) لأنه التفات بالقلب إلى المنظور فيه , و يسمى ( تأملًـا ) لأنه مراجعة للنظر كّرة بعد كّرة , حتى يتجلى له وينكشف لقلبه . و سمّي ( اعتبارًا ) وهو افتعال من العبور , لأنّه يعبر منه إلى غيره , فيَعْبُر من ذلك الذي فكّر فيه إلى معرفة ثالثة , وهي المقصود من الاعتبار , ولهذا يسمى ( عِبرة ) , وهي على بناء الحالات : كالجِلسة و القِتلة , إيذانًا بأنّ هذا العلم و المعرفة قد صار حالاً لصاحبه , َيعبُر منه إلى المقصود به , قال تعالى : { إِِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبرَةً لِمَن يَخْشَى } , و قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ } و سمّي ( تدبُّرًا ) لأنه نظر في إدبار الأمور, و هي أواخرها و عواقبها , و منه تدبر القول , قال تعالى : { أَفَلَم يَدَّبَّرُوا القَولَ }( ) , و قال : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرآنَ }(4) . و تدبر الكلام أن ينظر في أوله و آخره , ثمّ يعيد نظره مرة بعد مرة . و سمّي ( استبصارًا ) و هو استفعال من التبصر , و هو تبيُّن الأمر و انكشافه و تجلّيه للبصيرة , و كل من التذكر و التفكر له فائدة الآخر , فالتذكر يفيد تكرار القلب على ما علمه و عرفه , ليرسخ فيه و يثبت , ولا ينمحي فيذهب أثره من القلب جملة , و التفكر يفيد تكثير العلم , و استجلاب ما ليس حاصلا ً عند القلب ؛ فالتفكر يحصله , و التذكر يحفظه , و كل متفكر متذكر بدون عكس كلي " " ومن خصائص هذا العقل أنه ملكة الإدراك التي يناط بها الفهم و التصور و التأمل فيما يدركه , ويقلبه على وجوهه , و يستخرج منه بواطنه و أسراره , و يبني عليه نتائجه و أحكامه , و هذه الخصائص في جملتها تجمعها ملكة ( الحكمة ) و من أعلى خصائص العقل : ( الرُشْد ) الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى : { أَلَيسَ مِنْكُم رَجُلٌ رَشِيدٌ } , و هو تمام النضج في العاقل الرشيد , ووظيفة الرشد فوق وظيفة العقل الوازع , و العقل المدرك , و العقل الحكيم , لأنها استيفاء لجميع هذه الوظائف , و عليها مزيد من النضج و التمام و التمييز بميزة الرشاد , حيث لا نقص ولا اختلال , و قد يُؤتى الحكيم من نقص في الإدراك , و قد يُؤتى العقل الوازع من نقص في الحكمة , و لكن العقل الرشيد ينجو به الرشاد من هذا و ذاك استعمل القرآن الكريم لفظ ( القلب ) بمعنى العقل في نحو(133) مائة و ثلاث و ثلاثين آية ومن ذلك قوله تعالى : { لَهُم قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا } و قوله تعالى : { أَفَلَم يَسِيروا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهًم قًلًوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا } "وفسّر غير واحد من العلماء ( القلب ) بالعقل , و ذلك لأن العقل قوة من قوى القلب و خادم من خدامه , قال ابن كثير في قوله تعالى : { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } : أي لبٌ يعي به , وقال مجاهد : عقل , { أَوأَلْقَى السَّمعَ و هُو شَهِيدٌ } : أي استمع الكلام فوعاه و تعقّله بعقله و تفهّمه بلبه ..., وقال الضحاك : العرب تقول : ألقى فلان سمعه ؛ إذا استمع بأذنيه وهو شاهد بقلب غير غائب " وفي مواضع أخرى من القرآن يرد لفظ ( الفؤاد ) مضافًا أو مجموعًا في (16) ست عشرة مرة , و قد جاء مقترنًا بالسمع و البصر في سبعة منها , ومن ذلك : قوله تعالى : { إِنَّ السَّمعَ َو البَصَرَ وَ الفُؤَادَ كلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } و قوله تعالى : { وَهَو الذِي أَنْشَأَ لَكُم السَّمعَ والأَبَصَارَ و الأَفئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ } قال الراغب الأصفهاني : " الفؤاد كالقلب , لكن يقال له ( فؤاد ) إذا اعتبر فيه معنى التفـَـؤُّد : أي التوقّـُد , قال تعالى : { فَاجعَل أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهوِي إِلَيهِم }(7) , و تخصيص الأفئدة تنبيه على فَرْط تأثير له " "و العقل في القرآن يشمل النشاط العقلي للإنسان , بكل ما احتواه من هذه الوظائف , بجميع خصائصها و مدلولاتها , فهو يخاطب : العقل الوازع , و العقل المدرك , و العقل الحكيم , و العقل الرشيد , ولا يذكر العقل عَرَضاً مقتضبًا , بل يذكره مقصودًا مفصلاً , على نحوٍ لا نظير له في كتاب من كتب الأديان " عند التتبّع وجد أن لفظ ( العقل ) تكرر في ما يقرب من (300 ) ثلاثمائة مّرة , وأن لفظ (العلم) تكرر في ما يداني (1500) ألفًَا و خمسمائة مّرة , بالعقل العلمي و العملي , فالعلم ثمرة وهذا يشير إلى عناية الرسول الكريم من ثمرات العقل بالصيغتين : الاسمية و الفعلية , وقد ورد لفظ ( العقل) في أحاديث الرسول من هذه الأحاديث ما يلي : عن النّبي: حديث أبي هريرة أنّه قال " كرم الرجل دينه , و مروءته بشرف عقله , و حسب خلقه " تنويه المروءة هي العقل) وسال النبي صلى الله عليه وسلم الرجل ماعز بن مالك الأسلمي أبك جنون .قال ماعز . هذا يؤكد أن مناط التكليف هو العقل : و كان رسول الله كما في حديث ابن مسعود يمسح مناكبنا ويقول استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم , لِيَلِيَني منكم أولوا الأحلام و النُّهى , ثمّ الذين يلونهم , ثمّ الذين يلونهم "(4) . قال النووي : " أولوا الأحلام : هم العقلاء , و قيل : البالغون ,,قال الرسول في حديث النعمان بن بشير ان الحلال بين وان الحرام بين الى ان قال ألاو إنّ في الجسد مضغةً , إذا صلحت صلح الجسد كله , و إذا فسدت فسد الجسد كله ؛ ألا و هي القلب " فالعقل يقضي بفعل الحلال و الابتعاد عن الحرام , و ينهى عن المشتبهات التي لم يتضح للعقل أمرها , و هنا يبرز دور القلب الذي هو مكمن البصيرة و الفطرة و الحدس , فهذا هو الذي يساعد العقل على أن يبتعد عن المشتبهات كما أنه قد وردت في السنة المطهّرة مرادفات و ألفاظ بمعنى العقل مثل : ( العلم , الفقه , اللّب , الفكر, السمع , البصر... ) و هذا يدل على شرف العقل و أهميته الكبرى في معرفة الله و الفقه والتبصر بأمور الدين و الدنيا :تجدر الإشارة إلى أنّ القول بأنه لم يثبت عن الرسول مبالغ فيه , ذلك أنّ غلو المعتزلة و تعظيمهم للعقل حمل بعض المحدّثين على التشدّد في قبول أي ّ حديث في العقل , و من ذلك قول الدارقطني : " ( كتاب العقل ) الذي ينسب إلى داود بن المحبِّر وضعه أربعة : أولهم ميسرة , ثمّ سرقه داود , فركبّه بأسانيد غير أسانيد ميسرة , ثمّ سرقه عبد العزيز بن أبي رجاء , فركّبه بأسانيد أخر , ثمّ سرقه سليمان بن عيسى السجزي , فركّبه بأسانيد أخر" " فالمعتزلة عظّموا العقل تعظيمًا كبيرًا , و وثقوا بقدرته على إدراك الأشياء و المفاضلة بين الأمور , و أوغلوا في تحكيمه , و غالوا في قبول ما قبله و ردّ ما ردّه , و جعلوه لا يخطىء , و تكلفوا في رد بعض الأحاديث و الآثار الثابتة إذا خالفت – في نظرهم- العقل , فكان ذلك إسرافًا منهم لا ريب فيه "(3) . قال الكوثري : " إنّ المعتزلة كما غالوا في تحكيم العقل , غالى كثير من الرواة في ردّ كل ما ورد في فضل العقل نكاية في هؤلاء , و الحق بين طرفي الإفراط و التفريط " المطلب الثالث : مفهوم العقل عند العلماء : أولاً : العـقـل عـند عـلماء المسلمين : قال أبو حامد الغزالي : " اعلم أنّ الناس اختلفوا في حدّ العقل و حقيقته , و ذهل الأكثر ون عن كون هذا الاسم مطلقًا على معانٍ مختلفة , فصار ذلك سبب اختلافهم , و الحق الكاشف للغطاء فيه : أنّ العقل اسم يطلق بالاشتراك على أربعة معانٍ , كما يطلق اسم العين - مثلاً- على معانٍ عدة , وما يجري هذا المجرى , فلا ينبغي أن يُطلب لجميع أقسامه حد واحد , بل يفرد كل قسم بالكشف عنه : فالأول : الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم , وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية , و تدبير الصناعات الخفية الفكرية , وهو الذي أراده الحارث بن أسد المحاسبي حيث قال في حد العقل : ( إنه غريزة يتهيؤ بها إدراك العلوم النظرية ) ... , و نسبة هذه الغريزة إلى العلوم كنسبة العين إلى الرؤية , و نسبة القرآن و الشرع إلى هذه الغريزة في سياقها إلى انكشاف العلوم لها, كنسبة نور الشمس إلى البصر , فهكذا ينبغي أن نفهم هذه الغريزة . الثاني : هي العلوم التي تخرج إلى الوجود في ذات الطفل المميز بجواز الجائزات و استحالة المستحيلات : كالعلم بأن الاثنين أكثر من الواحد , و أن الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد . الثالث : علوم تستفاد من التجارب بمجاري الأحوال . الرابع : أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور و يقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة و يقهرها . فالأول : هو الأس و المنبع , و الثاني : هو الفرع الأقرب إليه , و الثالث : فرع الأول و الثاني , إذ بقوة الغريزة و العلوم الضرورية تستفاد علوم التجارب , و الرابع : هو الثمرة الأخيرة و هي الغاية القصوى ؛ فالأولان بالطبع , و الأخيران بالاكتساب " أورد المحاسبي في كتابه : ( مائية العقل ) ثلاثة تعريفات للعقل : واحد منها هو معناه في الحقيقة – كما ذكر – واثنان جوزتهما اللغة فيالكتاب و السنة . فأما معنى العقل في الحقيقة فهو قوله : " غريزة وضعها الله سبحانه في أكثر خلقه , لم يطّلع عليها العباد بعضهم من بعض , ولا اطّلعوا عليها من أنفسهم برؤية ولا بحس ّ, ولا ذوقٍ ولا طعم , و إنما عرفهم الله إياها بالعقل منه "(1) وهذا العقل عرف به الإنسان ربه , و ميّزبه بين ما ينفعه و ما يضره وأما التعريفان اللذان جوزتهما اللغة في الكتاب و السنة للعقل : فأحدهما : الفهم لإصابة المعنى , وهو البيان لكل ما سمع من الدنيا و الدين , أو مسّ أو ذاق أو شمّ , فسماه الخلق عقلاً , وسمّوا فاعله عاقلا , و هو ما : { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}(3) , قيل : دلّ عليه قوله تعالى لموسى اعقل ما أقول لك . وثانيهما : البصيرة و المعرفة , بتعظيم قدر الأشياء النافعة و الضارة في الدنيا و الآخرة , و منه العقل عن الله تعالى ؛ فمن ذلك أن تَعْظُم معرفته و بصيرته بعظيم قدر الله تعالى , و بقدر نعمه و إحسانه , و بعظيم قدْر ثوابه و عقابه , لينال به النجاة من العقاب , و الظفربالثواب" وعرّفه الجوينيّ بقوله : " العقل علوم ضرورية , و الدليل على أنه من العلوم الضرورية استحالة الاتّصاف به مع تقدير الخلو ّعن جميع العلوم " وعرّفه الراغب الأصفهاني بقوله : " العقل : يقال للقوة المتهيّئة لقبول العلم , و يقال للذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل " و قيل هو : " العلم بصفات الأشياء , من حسنها و قبحها , و كمالها و نقصانها , أو العلم بخير الخيرين و شر الشّرين , أو مطلق الأمور, أو لقوة يكون بها التمييز بين القبح و الحسن , و لمعان مختلفة في الذهن , يكون بمقدمات يستتب بها الأغراض و المصالح , و لهيئة محمودة للإنسان في حركاته و كلامه "(7) . ثانيًا : ا لعقل عند ا لفلاسفة : " يطلق الفلاسفة لفظ ( العقل ) على الله سبحانه المبدع الأول , و من هذا العقل نشأ العقل الأول , و الذي له القوة و التدبير و الإيجاد و الإنشاء في الكون , و هكذا تتسلسل العقول عندهم إلى عشرة عقول , و هذه العقول العشرة يقصد بها الفلاسفة عقول الأفلاك ,وأولها: العقل الأول , ثم العقل المحرّك لكرة الثوابت , ثم العقل المحرّك لكرة زحل....وهكذا , حتى تنتهي العقول العشرة إلى العقل الفائض على أنفسنا " أما أنواع العقول عند الفلاسفة , فإننا نجد أرسطو أوضح فلاسفة اليونان بيانًا لأنواع العقل الإنساني , و عنه نقل فلاسفة المسلمين هذا التقسيم( , و ما دام الأمر هكذا فيكفي أن نستعرض أنواعها عند أرسطو, و هي : 1- العقل الذي يذكره في كتاب " البرهان" , " و يعني به قوة النفس التي بها يحصل للإنسان اليقين بالمقدمات الكلية الصادقة الضرورية , لا عن قياسٍ أصلاً و لا عن فكر , بل بالفطرة و الطبع , أو من صباه , و من حيث لا يشعر من أين حصلت و كيف حصلت , فإن هذه القوة جزء ما من النفس يحصل لها المعرفة الأولى , لا بفكر ولا بتأمل أصلاً , و اليقين بالمقدمات. 2- " العقل الذي يذكره في المقالة السادسة من كتاب " الأخلاق " , فإنه يريد به جزء النفس , الذي يحصّل اليقين بقضايا و مقدمات في الأمور الإرادية , التي شأنها أن تؤثر أو تجتنب " " 3- أما العقل الذي يذكره أرسطو طاليس في كتاب " النفس " , فقد جعله على أربعة أنحاء : عقل بالقوة , و عقل بالفعل , و عقل مستفاد , و عقل فعّال . فأما العقل بالقوة ويسمى ( العقل القابل) : العقل المستعد لقبول صور الموجودات " ) . ب?- العقل بالفعل : هو حصول صور الموجودات ". ج- العقل المستفاد ( العقل بالملكة) : هو العقل بالفعل إذا عقل المعقولات التي هي صور له " د- العقل الفعّال : هو الذي يجعل المعقولات بالقوة معقولات بالفعل " المبحث الثاني العـقـل في الإسلام المطلب الأول : العقل في القرآن الكريم : أولاً : إعمال العقل في القرآن الكريم : " لقد جاءت دعوة القرآن إلى استعمال العقل و ضرورة الأخذ به في آيات كثيرة بلغت قرابة الخمسين ؛ كما يحشد عشرات الآيات في إيقاظ الحواس , من سمع و بصر و لمس , و عشرات أخرى في إيقاظ التفكير و الفقه , و طلب الحجّة و البرهان "" يقول العقّاد : " من مزايا القرآن الكثيرة مزية واضحة , يقل ّ فيها الخلاف بين المسلمين و غير المسلمين , لأنها تثبت من تلاوة الآيات , ثبوتًا تؤيده أرقام الحساب و دلالات اللفظ اليسير , قبل الرجوع في تأييدها إلى المناقشات و المذاهب التي قد تختلف فيها الآراء , و تلك المزية هي التنويه بالعقل , و التعويل عليه في أمر العقيدة و أمر التبعة و التكليف . ففي كتب الأديان الكبرى إشارات صريحة أو مضمونة إلى العقل أو إلى التمييز , و لكنها تأتي عرضًا غير مقصودة , و قد يلمح فيها القارئ بعض الأحايين شيئًا من الزراية بالعقل أو التحذير منه , لأنه مزلّة العقائد , و باب من أبواب الدعوى والإنكار . و لكن القرآن لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم , و التنبيه إلى وجوب العمل به و الرجوع إليه , ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية , بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها , مؤكدة جازمة باللفظ و الدلالة , و تتكرر في كل موضع من مواضع الأمر و النهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله , أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله و قبول الحجر عليه "(3) إنّ الدعوة إلى استعمال العقل تؤكد مكانته , و تنبّه الإنسان إلى أنّ من أخص خصائصه : التفكير و التدبر و الفهم و التعقل , فلا ينبغي له التنزّل عن أخص خصائصه , بتعطيل عقله , و إلا فقد تنزل عن إنسانيته , وصار كالأنعام السائمة , بل شرًّا منها: { إنَّ شَرَّ الدَّوَابِ عِنْدَ اللهِ الصُمُّ البُكمُ الذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ }(4) إنّ هذه الدعوة القرآنية للعقل من شأنها أن تفتح المدارك , و تثير التفكير , و تحمل على الاستزادة من العلوم و المعارف , و تفصل فصلاً حاسمًا بين الحقائق و الأوهام , ذلك أن الإنسان إنما يفكر و يتقدم بالعمل العقلي , فإذا تعطل العقل انحسرت المعرفة , و ضَمُر العلم , لذا فإن القرآن يعقد أوثق الأواصر بين الإيمان و الفكر , و الإيمان و المعرفة , حين يدعو إلى النظر و التأمل و التدبر في خلق السماوات و الأرض , و يحثه على التفكير في عالم النفس , وفي آفاق الكون , ويرى أن خير عظة توجه إلى الإنسان هي أن يفكر تفكيرًا سليمًا , و ينظر نظرًا صحيحًا في آيات الله في الآفاق والأنفس , قال تعالى : { قلِ إِنّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّه مَثْنَى و َفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } " إنّ دعوة القرآن إلى إعمال العقل – بتوجيهه الدائم إلى التدبر و التفكير في كل جوانب الكون والحياة , للتعرف على الحقائق بشمول و عمق – هو منهج العلم في أصدق أصوله و أرسخ قواعده , فهو المنهج الذي يرفع من شأن البحث العلمي الذي يوصل إلى معرفة الحق , و يؤدي إلى الإذعان له , لما يقوم عليه العلم الصحيح من الحجّة القوية و البرهان المقنع , و ليس يقبل في هذا المنهج الاعتماد على الظن و التخمين طريقًا للوصول إلى المعرفة "والعقل الذي يخاطبه القرآن هو العقل الذي يعصم الضمير و يدرك الحقائق و يميّز بين الأمور ويوازن بين الأضداد ,ويتبصر و يتدبر , ويحسن الادّكار والرواية , وهو العقل الذي يقابله الجمود و العنت و الضلال : وعندما نقول : إنّ القرآن يخاطب العقل , فإنما نعني – أنه يصحح له منهج النظر , و يدعوه إلى تدبر دلائل الهدى و موحيات الإيمان في الآفاق و الأنفس , ليرفع عن الفطرة ركام الإلـف و العادة و البلادة , و ركام الشهوات المضلّة للعقل و الفطرة " " والذي ينبغي أن نثوب إليه مرة بعد مرة أن التنويه بالعقل على اختلاف خصائصه لم يأت في القرآن عرضًا , ولا تردد فيه كثيرًا من قبل التكرار المعاد , بل كان هذا التنويه بالعقل نتيجة منتظرة , يستلزمها لُبــَاب الدّين و جوهره , و يترقبها من هذا الدين كل من عرف كنهه , و عَرَفَ كُــنْه الإنسان في تقديره ثانيًا : مجالات النظر العقلي في القرآن الكريم : إذا جاوزنا أمورًا ثلاثة , نُصح العقل ألا يتناولها : كقضية الذات الإلهية , و قضية القدر , أو مُنِع منعًا جازمًا منها كقضية التشريع , فكل المجالات الأخرى مباحة للعقل و متاحة له , -بل هو في الإسلام – مدعو إليها دعوة صريحة , و يعتبر مقصرًا إذا لم يقم بها , فليس محظورًا على العقل أن يمارس نشاطه فيما هو من اختصاصه , وإلا فقد عطّلنا هذه الغريزة الربانية , التي جعل الله من خصائصها التفكر واستنباط الدروس و العبر, و الوصول إلى ما ينفع الإنسان في دنياه و أخراه .وهناك أربعة مجالات رئيسية يدعى العقل للعمل فيها في ظل الإسلام : المجال الأول : تدبر آيات الله في الكون للتعرف على قدرة الله المعجزة , وتفرده بالخلق و التدبير والهيمنة و السلطان , بما يؤدي إلى إخلاص العبادة له وحده سبحانه , و طاعته فيما أمر به وما نهى عنه , فالقرآن يخاطب في نفس الوقت وجدان الإنسان وعقله , و يستنهضه للتفكر و التدبر و التأمل , لـتـتآزر جوانب الإنسان كلها للوصول إلى الحقيقة , و النتيجة الموضوعية العلمية , التي يدل عليها كل ما في السماوات و الأرض , و يسلك القرآن و هو يخاطب العقل طرق الاستدلال الخاصة , من استقراء و استنباط و قياس و منطق ... الخ لإقناع الجاحد , أو من كان في نفسه أدنى شبهة , وصولاً إلى حقيقة الألوهية من جهة , و ليرتب على هذه الحقيقة ما يستـتبعها من بعث و نشور و حساب و ثواب و عقاب " المجال الثاني : توجيه العقل إلى تدبر آيات الله في الكون , للتعرف على أسراره و معرفة النواميس التي تحكمه و الاستفادة منها في عمارة الأرض , انطلاقًا من حقيقة مسلّمة و هي أن الله سخر الكون للإنسان , و على العقل أن يُعمل نشاطه في كيفية استثمار هذا الرصيد : {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْـأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ } , ومن ثَمّ فإن القرآن يوجه العقل إلى استخلاص ما أودع الله في الكون من أسرار و طاقات , غير مفتون بها , ولا شاعر بأنها خلاصة الحياة و جوهرها الأوحد , فينتفع بثمارها و هو مالك لأمره منها غير مستعبد لها ولا منحرف في طريقها , فالكون هو ميدان العقل الأصيل الذي تتجلى فيه كل عبقريته , و الذي لا يشاركه فيه غيره , ذلك أن العقل البشري مفطور بطبعه على التفكير فيما حوله , و استنباط الطرق التي تحقق للإنسان حاجته , ثم تحسينها و محاولة الوصول بها إلى أقصى حد من الإتقان و الفاعلية , و ليس معنى ذلك أن العقل لا يخطىء ولا يتوهم , فكثيرًا ما يقع في الخطأ و الوهم , كما دلت على ذلك الوقائع الكثيرة على مدار التاريخ , و لكن معناه أن لديه أوسع فرصة ليصل إلى الحقيقة , فيما قدّر الله له من أمور هذا الكون . المجال الثالث: يوجّه القرآن العقل إلى تدبر حكمة التشريع لإحسان تطبيقه , و بذل الجهد من أصحاب العقول القادرة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها للوقائع المستجدة , و من هنا كانت الخيرية لأصحاب الفقه في دين الله : " من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدّين " , وما ذلككما في قوله إلا لأنهم أعملوا عقولهم في التعرف على دين الله و أحكامه الشرعية , و هو أمر واضح الضرورة و واضح الحكمة , ذلك أن التشريع لا ينطبق انطباقًا آليًـا على كل حالة من الحالات التي تقع بين البشر , إنما يحتاج الأمر إلى إعمال العقل لمعرفة الحكم الذي ينبغي تطبيقه في الحالة المعينة المعروضة للحكم , و لمعرفة الطريقة الصحيحة لتطبيقه , فالشريعة الإسلامية جاءت لتواجه المتغيرات التي تطرأ في حياة الناس , لأن هذه المتغيرات لم تـتـناولها الشريعة بالتفصيل , بحكم تغيرها الدائم , إنما وضعت لها الأسس , ومن ثَم فقد تركت للعقل المهتدي بالهدي الرباني المتفقه في الدين أن يستنبط لها من الأسس الثابتة ما يناسبها في كل طور من أطوارها , فإن المدى أمامه واسع في تطبيق النصوص على الحالات المتجددة , بعد أن ينضبط العقل بمنهج النظر الصحيح و موازينه المستقاة من دين الله " . المجال الرابع : يخاطب القرآن العقل لتدبر السنن الربانية التي تجري في حياة البشرية , و أن هذه السنن لا تـتبدّل ولا تـتغيّر, و على العقل أن يستثمر هذه السنن من أجل إقامة المجتمع الصالح الذي يتمشى مع مقتضياتها و مصالحها دون أن يصطدم معها , و القرآن يوجه العقل إلى النظر في سنن الله في الأرض و أحوال الأمم و الشعوب على مدى التاريخ :{ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ , هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ }, { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْـأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْـأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } " هذه الدعوة المتكررة تلفت النظر ولا شك , إنها دعوة تلـح على الناس أن ينظروا في تاريخ من قبلهم , و يدرسوا عوامل الفناء و البقاء في المجتمعات , دراسة واعية متفتحة بصيرة معتبرة , إنها دعوة للاستفادة من تجارب البشرية السابقة , وتجنب الأخطاء التي وقعت فيها, و عدم الاصطدام مع سنن الله في الكون , لأن نتيجة ذلك هي الهلاك و الزوال , فسنن الله لا تحابي أحدًا ) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ) فالقرآن حافظ على مكانة العقل و أهميته بلا إفراط ولا تفريط , فلا القرآن يغالي في قيمة العقل , فيقحمه فيما ليس من اختصاصه , أو يجعله المرجع الأخير لكل شيء حتى الوحي الرباني , ولا هو يبخسه قدره فيمنعه من مزاولة نشاطه في ميادينه الطبيعية التي يصلح لها و يحسن العمل فيها , فنرى القرآن يكل إلى العقل مهام خطيرة و واسعة , يكل إليه مهمة حراسة الوحي – الذي تكفل الله بحفظه – من كل تأويل فاسد مضل , و حراسة أحكام الله من الانحراف بها عن مقاصدها , و حراسة المجتمع من الآفات الاجتماعية و السياسية و الفكرية و الخُلقية التي تؤدي إلى تدميره , كما يكل إلى العقل مهمة التقدم العلمي و البحث التجريبي و عمارة الأرض , ولكن القرآن لا يكل إلى العقل , ولا يسمح له أن يحيد عن الوحي الرباني و المنهج الرباني , ولا أن يجتهد من عنده بما لم يأذن به الله , لأنه عندئذٍ يجانب الصواب و يحيد عن الخير و يمكّن للفساد , مثل ما وقع في عقلانية الإغريق الغابرة , و العقلانية التجريبية المعاصرة "(1) . و العقل البشري حين يتحرك في إطار الوحي لا يتحرك في مجال ضيق , إنما يتحرك في مجال واسع جدًا , إنه يتحرك في مجال هذا الوجود كله , الذي يحتوي عالم الشهادة و عالم الغيب أيضًا , كما يحتوي أغوار النفس و مجالات الحياة جميعًا . و الوحي لا يكــف العقل عن شيء إلا عن انحراف المنهج , و سوء الرؤية , و الْتواء الأهواء والشهوات , و بعد ذلك يدفعه إلى الحركة و النشاط دفعًا في المجالات المختلفة , مما يضفي على الحياة بهاءها و فاعليتها , مسترشدًا بالوحي , الذي يضمن له السير في الاتجاه الصحيح "(2) . المطلب الثاني : التحسين و التقبيح العقليين : لم يختلف المسلمون في أن مصدر جميع الأحكام التكليفية و الوضعية هو الله وبعد البعثة وبلوغ الدعوة(1) ؛ و لكنهم يختلفون في معرِّف أحكام الله طريق إدراكه قبل بعثة الرسل : أي في قابلية العقل لإدراك الأحكام الشرعية من غير طريق النقل , وهذا الخلاف يرجع إلى قضية التحسين والتقبيح العقليين . فهل حسن الأفعال و قبحها يستقل بإدراكها العقل , أو لا سبيل إلى معرفتهما إلا عن طريق الشرع , فما أمر به الشرع فهو حسن , وما نهى عنه فهو قبيح ؟ وهل إذا أدركت عقولنا حسن شيء أو قبحه , فهل يكون هذا الإدراك مناط التكليف وما يتبعه من ثواب و عقاب في الآجل , و مدح و ذم في العاجل . الحسن و القبح : اتفق الأشاعرة و المعتزلة على أن العقل يدرك الحسن و القبح في شيأين أو معنيين (2) : الأول : إطلاق الحسن على ملائم الطبع : كالحلاوة و عذوبة الصوت و إنقاذ الغرقى , و القبح على منافر الطبع و مخالفه : كالمرارة و خشونة الصوت و أخذ الأموال ظلمًا . الثاني : إطلاق الحسن على صفة الكمال : كالعلم و الصدق , و القبح على صفة النقص : كالجهل والكذب . محل الخلاف : فهو في إطلاق ثالث : وهو أن يراد بالحسن : ما يترتب على فعله المدح في الدنيا و الثواب قي الآخرة , و القبيح : ما يترتب على فعله الذم في الدنيا و العقاب في الآخرة , هنا يظهر الخلاف , فهل يستقل العقل بإدراك الحسن و القبح بهذا المعنى , و إذا أدركه فهل يكلف الشخص به فعلاً أو تركًا , و يترتب بالتالي الثواب أو العقاب في مخالفة ما أدركه العقل ؟ هناك ثلاثة مذاهب المذهب الأول : المعتزلة و من وافقهم ؛ كالكرامية و الخوارج و الشيعة الجعفرية و البراهمة و الثنوية و غيرهم , و خلاصته : إن في الأفعال حسنًا ذاتيًا , و قبحًا ذاتيًا , و إن العقل يستقل بإدراك حسن أو قبح معظم الأفعال بالنظر إلى صفات الفعل وما يترتب عليه من نفع أو ضرر, أي مصلحة و مفسدة , وهذا الإدراك لا يتوقف على وساطة الرسل و تبليغهم , فحسن الفعل أو قبحه أمران عقليان لا شرعيان , أي لا يتوقف ذلك على الشرع , وإن حكم الله يكون وفق ما تدركه عقولنا من حسن الأفعال أو قبحها , فما رآه العقل حسنًا فهو عند الله حسن , و مطلوب من الإنسان فعله , ومع الفعل المدح و الثواب ومع المخالفة الذم و العقاب , وما رآه العقل قبيحًا فهو عند الله قبيح و مطلوب من الإنسان تركه , ومع الترك المدح و الثواب , ومع الفعل الذم و العقاب . فأحكام الشرع في نظر أصحاب هذا القول : لا تأتي إلاّ موافقة لما أدركه العقل من حسن الأفعال أو قبحها , فما أدرك العقل حسنه جاء الشرع بطلب فعله ولا يمكن أن يطلب تركه , وما أدرك العقل قبحه جاء الشرع بطلب تركه ولا يمكن أن يطلب فعله , وما لم يدرك العقل حسنه أو قبحه كما في بعض العبادات و كيفياتها فإن أمر الشارع أو نهيه فيها يكشفان عن حسن أو قبح هذا النوع من الأفعال . وبنوا على ذلك : أنّ الإنسان مكلف قبل بعثة الرسل أو قبل بلوغ الدعوة إليه , إذ عليه أن يفعل ما أدرك العقل حسنه و أن يترك ما أدرك العقل قبحه , لأن هذا هو حكم الله , ومع التكليف المسؤولية و الحساب وما يتبع ذلك من ثواب و عقاب "(1) . المذهب الثاني : الأشاعرة , وهو قول جمهور الأصوليين , و خلاصته : إن العقل لا يستقل بإدراك حكم الله , بل لا بد من وساطة الرسول و تبليغه , فليس في الأفعال حسن ذاتي يوجب على الله أن يأمر به , كما ليس في الأفعال قبح ذاتي يوجب على الله أن ينهى عنه , فإرادة الله مطلقة لا يقيّدها شيء , فالحسن ما جاء الشارع بطلب فعله , و القبيح ما جاء الشارع بطلب تركه , فليس للفعل قبل أمر الشارع و نهيه حسن ولا قبح , و الفعل إنما يصير حسنًا لأمر الشارع به لا لذات الفعل , ويصير قبيحًا لنهي الشارع عنه لا لذات الفعل , فالأفعال تستمد حسنها و قبحها من أمر الشارع ونهيه لا من حسنٍ أو قبحٍ في ذواتها .و بنوا على ذلك : أن لا حكم لله في أفعال العباد قبل بعثة الرسل , فما لم يأت رسول يبلغ أحكام الله للعباد لا يثبت لأفعالهم حكم , فلا يجب عليهم شيء , ولا يحرم عليهم فعل , وحيث لا حكم فلا تكليف , و حيث لا تكليف فلا حساب ولا مدح ولا ثواب , ولا ذم ولا عقاب "(2) . المذهب الثالث : الماتريدية , و محققوا الحنفية و بعض الأصوليين وفريق من الجعفرية , و خلاصته : أن للأفعال حسنًا و قبحًا يستطيع العقل إدراكها في معظم الأفعال بناءًا على ما في الفعل من صفات , وما يترتب عليه من مصالح و مفاسد , ولكن لا يلزم من كون الفعل حسنًا حسب إدراك العقل أن يأمر به الشرع , ولا يلزم من كون الفعل قبيحًا أن ينهى عنه الشرع , لأن العقول مهما نضجت فهي قاصرة , ومهما اتسعت فهي ناقصة ,وعلى هذا فكل ما يمكن أن يقال , هو أن ما في الفعل من حسن يدركه العقل يجعل الفعل صالحًا لأن يأمر به الشارع , و أن ما في الفعل من قبح يدركه العقل يجعل الفعل صالحًا لأن ينهى عنه الشارع , ولا يقال إن الحسن و القبح موجبان لحكم الله بالأمر و النهي . و بنوا على ذلك : أن حكم الله لا يدرك بدون وساطة رسول و تبليغه ومن ثَم : فلا حكم لله في أفعال العباد قبل بعثة الرسل أو قبل بلوغ الدعوة , وحيث لا حكم فلا تكليف , وحيث لا تكليف فلا ثواب ولا عقاب القول المختار : قول الماتريدية ومن وافقهم , هو الراجح المؤيد بالكتاب و العقل , أما الكتاب ففيه آيات كثيرة تدل على أنّ الله إنما يأمر بما هو حسن و ينهى عمّا هو قبيح , و الحسن و القبح ثابتان للأفعال قبل الأمر و النهي , ومنها قوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ }, و { يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ } , فما أمر به الشارع من عدل و إحسان و معروف , وما نهاهم عنه من فحشاء و منكر و بغي , وما أحلّ لهم من طيّبات , وما حرم عليهم من خبائث , كل هذه الأوصاف الحسنة أو القبيحة : كانت ثابتة للأفعال قبل ورود حكم الشرع فيها , مما يدل على أن للأفعال حسنًا و قبحًا ذاتيين . و العقل يدرك حسن بعض الأفعال و قبح البعض الآخر بالضرورة : كحسن العدل و الصدق , و قبح الظلم و الكذب , ولكن حكم الله لا يعرف إلا عن طريق الرسول , فما لم يأت رسول يبلّغ الناس حكم الله , فلا يثبت في أفعال الناس حكم بالإيجاب أو التحريم بدليل قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }, فلا عذاب قبل بعثة الرسول أو بلوغ الدعوة , وحيث لا عذاب فلا تكليف , وحيث لا تكليف فلا حكم لله في أفعال العباد على وجه طلب الفعل أو التخيير بينهما , وما أحسن كلمة الإمام الشوكاني , إذ يقول : " و إنكار مجرد إدراك العقل لكون الفعل حسنًا أو قبيحًا مكابرة و مباهتة ..., و أما إدراكه لكون ذلك الفعل الحسن متعلقًا للثواب , و كون ذلك الفعل القبيح متعلقًا للعقاب فغير مسلم , و غاية ما تدركه العقول : أن هذا الفعل الحسن يمدح فاعله ,وهذا الفعل القبيح يذم فاعله , فلا تلازم بين هذا وبين كونه متعلقًا للثواب و العقاب " ثمرة الخلاف(1) : يترتب على مسألة التحسين و التقبيح العقليين الآتي : أولاً : من لم تبلغه دعوة الرسل على وجه العموم , فعند المعتزلة : يؤاخذ بفعله و يحاسب على أعماله ؛ لأن المطلوب منه : فعل ما أدرك العقل حسنه , و ترك ما أدرك العقل قبحه , وهذا هو حكم الله . وعند الأشاعرة و الماتريدية ومن وافقهم : لا حساب ولا ثواب ولا عقاب على من لم تبلغه الدعوة . ثانيًا : بعد ورود شريعة الإسلام , لا خلاف بين العلماء في أن حكم الله , وكلاهما يدرك بواسطة ما جاء عن الله في كتابه , أو ما جاء في سنة نبيه قام النبي بتبليغه . ولكن إذا لم يكن في المسألة حكم من الشرع , فإن المعتزلة قالوا : بأن العقل يكون مصدرًا للأحكام , بمعنى : أن المسألة التي لم يرد في الشرع حكم لها , يكون حكمها الوجوب إذا أدرك العقل حسنها , ويكون حكمها الحرمة إذا أدرك العقل قبحها , لأن حكم الله مبناه ما في الأفعال من حسن أو قبح , فإذا لم يرد في الشرع حكم لمسألة ما فمعنى ذلك : أن الشارع أذن لنا أن نرجع إلى العقل لنستمد منه الحكم بناءًا على ما في الفعل من حسن أو قبح . و على رأي الأشاعرة و الماتريدية : لا يكون العقل مصدرًا للأحكام و إنّما يؤخذ الحكم من مصادر الفقه الثابتة و ليس العقل منها . ومما تجب ملاحظته أن هذه المسألة من مسائل علم التوحيد أو علم الكلام الذي يبحث في العقائد الدينية , و أن أثر الخلاف محصور في من لم تبلغهم شرائع الرسل قط , و أما من بلغتهم شرائع الرسل فمقياس الحسن و القبح للأفعال بالنسبة لهم ما ورد في شريعتهم لا ما تدركه عقولهم بالاتفاق , فما أمر به الشارع فهو حسن , و مطلوب فعله و يثاب فاعله , و أما ما نهى عنه الشارع فهو قبيح ومطلوب تركه . المبحث الثالث العقل و النقل و دعوى تعارضهما المطلب الأول : جذور الصراع بين العقل و النقل : أولاً : في العصور الأولى(1) : إن إشكالية تعارض العقل و النقل لم تنبع أصلاً من داخل العقل الإسلامي الذي تشكل بتأثير الخطاب القرآني , ولكنها طرأت نتيجة لـتأثر الفكر الإسلامي بالعقل الإغريقي الثاوي في الفلسفات الإغريقية , ذلك أن مفهوم علماء المسلمين الأوائل للعقل على أنه قدرة فطر الله الناس عليها تمكّنهم من تمييز الصدق من الكذب و الحق من الباطل على بساطته , كان مستندًا للنظرة القرآنية ؛ إلا أنه لم يلبث أن اضطرب مع انتشار الفلسفات الإغريقية , وما حملته من مفاهيم ماورائية مرتبطة بالتصور الإغريقي للوجود , فنجد أن الفلاسفة المسلمين تبنوا النظرية الإغريقية للوجود , واعتمدوها في كتاباتهم ؛ فالفارابي يستعير التصور الإغريقي لبنية الوجود بحذافيره , و ابن سينا حاول أن يطور التصور الإغريقي لسيرورة التعقل , فأدخل مفاهيمًا جديدة مثل : العقل الهيولي , و العقل القدسي , لكنه احتفظ بفرضية العقل الفعّال . وفي مواجهة المد الفلسفي الإغريقي المصرّ على كفاية العقل في فهم حقائق الوجود , و الجانح إلى تطويع دلالات الوحي لمقولات الفلسفة الإغريقية , برز المتكلمون للتصدي لشطحات العقل الإغريقي , و لإعادة ترتيب نظرية الوجود و نظرية المعرفة وفق دلالات الوحي ؛ لذلك رفض المتكلمون وعلى رأسهم الجويني و الغزالي : دعوى كفاية العقل و أكّدوا ضرورة اعتماد الوحي مصدرًا أو دليلاً معرفيًا إلى جانب العقل , و تخلصوا من مفهوم العقل الفعّال وما تبعه من عقول لواحق , وكل الأطروحات الإغريقية المبنية على نظرية الفيض ابتداءًا من ابن رشد في كتابه رسالة ما بعد الطبيعة ) , و الرازي في كتابه المباحث المشرقية ). إن المساهمة الكبيرة التي قدّمها الفكر الإسلامي لإنضاج مفهوم العقل وتحديد حدوده ومصادره تتمثل بربط عمليات العقل ومبادئه بالواقع الحسي و النص الموحى , فقد أدى تطور البحث في نظرية الوجود و نظرية المعرفة إلى رفض علماء المسلمين المنهج الإغريقي في التوليد المعرفي المنحصر في عمليات تأمل نظري داخل منظومة منغلقة من الأحكام و أصرّوا على ربط المعرفة بالتجربة و الملاحظة , كما رفضوا دعوى الفلاسفة الإغريق بكفاية العقل و قدرته على النظر في بنية المغيَّب الماورائي دون الرجوع إلى الوحي المنزل من لدن عليم خبير ثانيًا : في العصور المتأخرة : ترجع جذور هذا الصراع إلى ذاك الصدام الذي وقع بين رجال الدين النصارى وبين العلماء في أوربا , وانتهى بإقصاء الدين عن الحياة وانتشار الإلحاد و العلمانية في ثوب العقلانية الحديثة , بدءًا من أوربا و انتهاءًا بالعالم الإسلامي . يقول سيد قطب : " لقد احتجزت الكنيسة لنفسها حق فهم ( الكتاب المقدس ) و تفسيره , و حظرت على أي عقل من خارج الكهنوت ( رجال الدين النصارى ) أن يحاول فهمه أو تفسيره , ثم أتْبعت هذا بإدخال معمّيات في العقيدة , لا سبيل لإدراكـــها أو تصورها أو تصديقها ... ثم أدخلت مثل هذه المعمّيات في الشعائر التعبدية ؛ المثال الصارخ لهذه المسألة ( العشاء الرباني ) الذي كان أحد الإحالات التي ثار عليها : ( مارتن لوثر , و كالفن , و زنجلي ) فيما سمّي بالإصلاح الديني. ومسألة العشاء الرباني مسألة مستحدثة , ما جاء بها ( الكتاب المقدس ) عندهم , وما تعرض لها النصارى الأوّلون , ولا المجامع المقدسة الأولى , وقد زعمت الكنيسة أن الخبز الذي يأكله أتباعها في عيد الفصح يستحيل إلى جسد المسيح , وأن الخمر الذي يشربون يستحيل إلى دم المسيح المسفوك , فمن أكلها – وقد استحالا هذه الاستحالة – فقد أدخل المسيح في جسده بلحمه و دمه . وقد فرضت الكنيسة على الناس قبول هذا الزعم , ومنعتهم من مناقشته , وإلا عرضوا أنفسهم للطرد و الحرمان , هذا ولم تكتف الكنيسة بتلك المعمّيات و الخرافات في العقيدة وفي الشعائر , بل أتبعتها بأمثالها في أمور الكون و الحياة , فادّعت آراءً و نظريات جغرافية و تاريخية و طبيعية , مما كان سائدًا في عصرها , مليئة بالخطأ و الخرافة عن الكون و الحياة والإنسان , و جعلتها مقدسة لا تجوز مناقشتها ولا تصحيحها ولا تجربتها ولا القول بسواها" وكان ذلك في عصر انفجر فيه بركان العقلية في أوربا , و حطم علماء الطبيعة و العلوم سلاسل التقليد الديني , فزيفوا هذه النظريات الجغرافية ... وانتقدوها في صرامة و صراحة , واعتذروا عن عدم اعتقادها و الإيمان بها بالغيب , وأعلنوا اكتشافاتهم واختباراتهم , فقامت قيامة الكنيسة , وقام رجالها المتصرفون في زمام الأمور في أوربا وكفّروهم واستحلوا دماءهم و أموالهم في سبيل الدين المسيحي , وأنشؤوا محاكم التفتيش ؛ التي تعاقب – كما يقول البابا – أولئك الملحدين و الزنادقة , الذين هم منتشرون في المدن و البيوت والمغارات و الغابات والحقول , فجدّت واجتهدت وسهرت على عملها , واجتهدت ألا تدع في العالم النصراني عرقًا نابضًا ضد الكنيسة , وانبثت عيونها في طول البلاد و عرضها , وأحصت على الناس الأنفاس , وناقشت عليهم الخواطر . وهناك ثار المجددون المتنوّرون وعيل صبرهم , وأصبحوا حربًا لرجال الدين وممثلي الكنيسة والمحافظين على القديم , ومقتوا كل ما يتصل بهم ويعزى إليهم : من عقيدة و ثقافة وعلم و أخلاق و آداب , و عادوا الدين المسيحي أولاً , والدين المطلق ثانيًا و استحالت الحرب بين زعماء العلم و العقلية و زعماء الدين المسيحي – وبلفظ أصح الديانة البوليسية – حربًا بين الدين و العلم مطلقًا , وقرر الثائرون أن العلم والدين ضرّتان لا تتصالحان , وأن العقل و النظام الديني ضدان لا يجتمعان , فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر ومن آمن بالأول كفر بالثاني " ؛ " ومن ثم كانت النقمة على الدين من قبل العلمانيين و دعاة العقلانية , نقمة لا تستثني دينًا ولو كان حقًا ولم يكن خصمًا للعقل و العلم , وهذا ما حدث في العالم الإسلامي , حيث ظهرت دعوات تنادي بإقصاء الإسلام عن الحكم وعن مناحي الحياة المختلفة , بل ظهرت أفكار إلحادية لا تؤمن بما وراء الحس مطلقًا , فكانت جناية هؤلاء على الإسلام عظيمة , عندما صوّروا أنّ الدين و العلم لا يجتمعان , ومن ثَمّ إذا بدا تعارض بين العقل و الدين – في الظاهر- سارع أنصار العقلانية إلى رفض الدين , ولو كانت نظريات العلم لم تَرْق إلى أن تكون حقائق علمية . لقد كانوا معذورين في أن يشكّكوا في كل حرف تقوله الكنيسة و تزعم أنه من عند الله , وفي أن يبدؤوا العلم من نقطة الصفر , و يجربوا لأنفسهم ليثبتوا , فهذا هو المنهج العلمي الصحيح الذي تعلموه على أيدي أساتذتهم المسلمين , ولكنهم غير معذورين حين تصل بهم حقائق العلم إلى رؤية القدرة المعجزة للخالق , فيلوون رؤوسهم في كبر , أو يهزّون أكتافهم في استهتار غير علمي , و يقولون : إنه ليس الله , ولكنه الطبيعة . هنا الحماقة التي لا يبررها شيء ؛ لا الأمانة العلمية , ولا الإنسانية الحقيقية للإنسان , فأوربا بدأت من هذه الحماقة , ثم لجّّّت فيها إلى أبعد الحدود المطلب الثاني : دفع التعارض بين العقل و النقل : " شغلت قضية العقل في مواجهة الوحي علماء الأمة و مفكريها منذ القديم , ولمّا تزل , واتخذت القضية أشكالاً مختلفة وانتحلت أسماء متغايرة , فهي قضية السمع و العقل , أو النقل و العقل , أو الخبر و العقل , وهي قضية الرأي مقابل الحديث , و القياس مقابل النص , و الفهم الظاهر مقابل التأويل , وهي قضية البرهان مقابل البيان , و النظر مقابل العرفان . و انقسم العلماء في تعريفهم للعلاقة بين الوحي و العقل في دائرة الفقه إلى مذاهب : كالأحناف و المالكية و الشافعية و الحنابلة والظاهرية , وفي دائرة التوجه العقدي إلى فرق : كالخوارج و الشيعة و السنة , وفي دائرة التصور إلى مدارس : كالحشوية و المعتزلة و الأشاعرة و الفلاسفة . واليوم يلحظ المتأمل في خريطة الانقسامات الفكرية , أن انقسام الإسلاميين بين الاتجاهين : الإحيائي و الإصلاحي يعود في المقام الأول إلى إشكالية التعارض المتمثلة في رفض الإحيائيين كل اجتهاد يخالف في منهجه أو مضمونه التفسيرات التراثية لنصوص الوحي , وتأكيد الإصلاحيين على ضرورة إعمال النظر من جديد في نصوص الوحي و قراءتها قراءة جديدة في ضوء المعطيات المعرفية و الاجتماعية المتجددة " إشكالية التعارض : تتعلق الإشكالية بتحديد الكيفية الواجب اتباعها لتجاوز التعارض أو التناقض بين الأحكام النقلية و الأحكام العقلية حال قيامه , ولأن القاعدة التي اعتمدها الرازي في كتابه : ( أساس التقديس ) للتعامل مع مشكلة تعارض العقل و النقل تقتضي تقديم العقل على النقل باعتبار أن العقل أصل النقل , فإن ابن تيمية يعمد في كتابه : ( درء تعارض العقل و النقل ) إلى تفنيد قاعدة تقديم العقلي على النقلي و إظهار فسادها , لينتهي أخيرًا إلى تأكيد استحالة قيام تعارض حقيقي بين القطعيات النقلية و العقلية , وبالتالي إلى تقرير ضرورة دفع المعارض العقلي حال قيامه و الحكم عليه بالفساد . وبذلك يحدد ابن تيمية موقفه من إشكالية التعارض باتخاذ موقف مناقض لموقف الرازي , و الدعوة إلى تقديم النقل على العقل حال تعارضهما من خلال النظر في ظواهر التعارض بين العقل و النقل يمكن ردّ ذلك إلى الأمور التالية : 1- أن القضية العقلية التي يُظن أنها تعارض المنقول ( الوحي ) ليست من قضايا العقول السليمة . 2- أن المنقول الذي يُظن أنه يعارض العقل السليم , ليس من السمع الصحيح المقبول 3- أن يكون التعارض قائمًا بسبب خطأ في فهم النص 4- عدم التمييز بين ما يحيله العقل ( ما يقطع العقل باستحالته ) , وما لا يدركه أبرز المسائل في هذه القضية : 1- أن حقائق الوحي لا يمكن أن تتعارض مع حقائق العقل , انطلاقًا من وحدة المصدر لكليهما وهو الله 2- أن قطعي الوحي يقدم على ظني العقل , فلا يمكن لنظرية أو فرضية علمية لم ترق إلى مرتبة الحقيقة أن تتقدم قطعي الوحي . 3- أن قطعي العقل يفسّر على أساسه ظني الوحي , باعتبار أن ظني الوحي يحتمل أكثر من تفسير , فيرجح التفسير الذي تؤيده الحقائق العلمية . 4- إذا كان كل من العقل و الوحي ظنيًا , فنتوقف في ترجيح أحدهما على الآخر , حتى يثبت أن أحدهما هو القطعي , و عندئذ يكون هو المقدّم لكونه قطعيًا , وإن لم يثبت فيجب البحث عن مرجّحات خارجية . " إن إشكالية التعارض لا تتعلق بالتشكيك في أهمية العقل و الوحي لتوجيه الحياة البشرية , فكلا الفريقين متفقان على ضرورة اتباع الأحكام القطعية , سواء أنتسبت إلى الوحي أم العقل , و استحالة قيام تعارض بين القطعيات العقلية و النقلية , بل تتعلق الإشكالية بتعارض عقليتين أو منهجيتين في التفكير و الاستدلال , فالرازي لا يشكــك في مصدرية الوحي المعرفية , بل ينطلق من النص القرآني في تحديد التصور الكلي للوجود , كم فعل في كتابه ( أساس التقديس ) , لكنّه يدعوا إلى تأويل نصوص الكتاب إذا استحال حمل معناها على ظاهرها , وإلى ردّ أخبار الآحاد عند تعارضها مع أحكام العقل القطعية , و بالمثل فإن ابن تيمية لا يتشكك في أهمية مبادىء العقل في بيان صدق المنقول , لكنه لا يرى أن كل ما نسب إلى العقل قطعي لا يحتمل التردد فيه . إن المواجهة بين ابن تيمية و الرازي ليست مواجهة بين شخصين , بل بين تيارين فكريين كبيرين , ذلك أن الموقفين الرئيسيين من مسألة تعارض العقل و النقل المتمثلين في آراء الرازي و ابن تيمية يعبران عن حالة الاستقطاب التي صبغت حركة تطور الفكر الإسلامي خلال القرون الماضية و أدت إلى انقسام العلوم إلى نوعين متمايزين و متصارعين : العلوم العقلية و العلوم الدينية " " وهكذا يظل الوحي و العقل عند المسلم في كل الأحوال متكاملين متعاونين , كمصدرين للفكر و المعرفة و العمل و التنظيم , لا مجال للتعارض بينهما , وكل تعارض وهميّ يُحَلُّ بمزيد من الفكر و التدبر و التمحيص و الشمول في أمر مفهومنا و تفسيرنا للوحي , وفي أمر منهجنا و أسلوبنا في الوصول إلى النتائج العقلية , حتى يتّضح وجه الصواب , و يزول وَهْمُ التعارض , وتتضح مقتضيات المصلحة الإنسانية التي تستهدفها مقاصد الشريعة في توجيه الحياة الإنسانية خلال فترة التدبر و التمحيص تلك " المطلب الثالث : تكامل العقل و الوحي : يقول ابن القيّم : " إنّ الحجج السمعية مطابقة للمعقول , و السمع الصحيح لا ينفك عن العقل الصريح بل هما أخوان نصيران , وصل الله بينهما و قرن أحدهما بصاحبه فقال تعالى :{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلـَا أَبْصَارُهُمْ وَلَـا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون }(1) , فذكر ما ينال به العلوم و هي : السمع و البصر و الفؤاد الذي هو محل العقل , وقال تعالى : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }(2) , فأخبروا أنهم خرجوا عن موجب السمع و العقل , و قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ }(3) , { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }(4) , فدعاهم إلى استماعه بأسماعهم و تدبره بعقولهم و مثله قوله : {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ }(5) , و قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }(6) . فجمع سبحانه بين السمع و العقل و أقام بهما حجته على عباده , فلا ينفك أحدهما عن صاحبه أصلاً , فالكتاب المنزل و العقل المدرك حجة الله على خلقه , و كتابه هو الحجة العظمى , فهو الذي عرّفنا ما لم يكن لعقولنا سبيل إلى استقلالها بإدراكه أبدًا , فليس لأحد عنه مذهب , و لا إلى غيره مفزع في مجهول يعلمه , و مشكل يستبينه , و ملتبس يوضحه , فمن ذهب عنه فإليه يرجع , و من دفع حكمه فبه يحاجّ خصيمه , إذْ كان بالحقيقة هو المرشد إلى الطرق العقلية و المعارف اليقينية , التي بالعباد إليها أعظم حاجة فمن ردّ من مدّعي البحث و النظر حكومته و دفع قضيته , فقد كابر و عاند , و لم يكن لأحد سبيل إلى إفهامه و لا محاجّته و لا تقرير الصواب عنده , و ليس لأحد أن يقول : إنّي غير راض بحكمه , بل يحكّم العقل , فإنه متى ردّ حكمه فقد ردّ حكم العقل الصريح و عاند الكتاب و العقل و يعبّر الراغب الأصفهاني عن التكامل بين العقل و الوحي بنوع من التفصيل الرائع فقال : " إعلم أن العقل لن يهتدي إلا بالشرع , و الشرع لا يتبين إلا بالعقل , فالعقل كالأساس , و الشرع كالبناء , ولن يغني أساس ما لم يكن بناء , ولن يثبت بناء ما لم يكن أساس , وأيضًا فالعقل كالبصر , و الشرع كالشعاع , ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج , ولن يغني الشعاع ما لم يكن بصر , فلهذا قال تعالى : { قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ , يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ }, وأيضًا فالعقل كالسراج , وما لم يكن سراج لم يضىء الزيت , وعلى هذا نبّه الله تعالى بقوله :{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّـا شَرْقِيَّةٍ وَلـَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ } , فالشرع عقل من خارج , والعقل شرع من داخل , وهما متعاضدان بل متحدان " إن المعرفة العقلية محدودة بما تمدنا به حواسنا أو نستنبطه بوسائل الإدراك , ومثل هذه الوسائل تقصر عن بلوغ حقائق كثير من الأشياء اتفاقًا و اختلافًا , فالعقل يدرك الأسباب وراء الظواهر , كما أنه يستطيع البرهنة على ما بين الأسباب و الظواهر من ارتباط , ولكنه يقصر عن معرفة حقائق الأشياء في ذاتها , وهذا يبدو أكثر وضوحًا بالنسبة للمسائل الميتافيزيقية , إذ إن العقل يعجز تمامًا عن أن يعطينا تصورًا دقيقًا لذات الله تعالى و حقيقة صفاته , فهذا أمر وراء طوره و إدراكه , ولذلك لزمت الحاجة إلى الوحي لبيان هذه الأشياء " ومن ثَم َّ فحقائق الغيب لا سبيل إلى مناقشتها منا قشة عقلية , وإنما طريق معرفتها الوحي , و دور العقل فيها يقتصر على التصنيف و التقسيم و التبويب و التقنين , و بعدها استيعاب هذه الحقائق و التسليم بوجودها , والإذعان لله خالق الغيب و الشهادة , حتى نخرج بحقيقة عامة كاملة متوازنة متناسقة , و غير منافية للعقل و المنطق . والأعجب من هذا من ينكر ما يأتي عن طريق الوحي , بدعوى أنه لا يقع تحت الحس , وهذا في الواقع يعود إلى عدم التفريق بين ما يحكم العقل باستحالته , و بين ما يعجز عن إدراكه . يقول هربرت سبنسر : " و أيُّ غرابة فيما يصادف العقل البشري من إبهام لا يقوى على معرفته ؟ إنه أعدّ لكي يفهم ظواهر الأشياء ولا يعدوها إلى ما خفي من أستارها , ولكنا في الوقت نفسه لا نستطيع أن ننكر هذا الشعور الذي تظطرب به نفوسنا من أن وراء هذا الغشاء الظاهر حقيقة كامنة , حسْب العقل أن يدرك وجودها , أما إذا همّ نحوها بالتحليل و التعليل خرَّ صريعًا " يقول سيد قطب : " والذين يرون أن العقل يغني عن الوحي – حتى عند فرد واحد من البشر , مهما بلغ عقله من الكبر – إنما يقولون في هذه القضية غير ما يقول الله , فالله قد جعل حجّته على الناس هي الوحي و الرسالة , ولم يجعل هذه الحجة هي عقلهم البشري , ولا حتى فطرتهم التي فطرهم الله عليها من معرفة ربها الواحد و الإيمان به , لأن الله سبحانه يعلم أن العقل وحده يضل ّ , وأن الفطرة وحدها تنحرف , وأنه لا عاصم لعقل ولا لفطرة إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي , وهو النور و البصيرة " , و سيظل العقل رشيدًا في أدائه , ما دام يسعى بالعمل و الإصلاح ضمن توجيهات الوحي و إرشاداته في معنى العلاقات وغايات الوجود . إن التكامل بين الوحي و العقل قضية بدهية عند المسلم , تنبع من مبدأ وحدة المصدر لكل منهما , فالعقل من خلق الله وهبه للإنسان ليدرك به أمانة حمل مسؤولية الاستخلاف في الأرض و التعرف على الأسباب المادية التي تعين على أداء هذه الأمانة , "وفي المقابل فإن الوحي مقصود به هداية الإنسان و تكميل إدراكاته , و تحديد غايات الحياة الرشيدة للإنسان , و تحديد مسؤولياته في هذه الحياة, و ترشيد توجيهاته فيها , و وصل إدراكه الجزئي بالمدركات الكلية فيما وراء الحياة , و علاقات الكون , و كليات المركبات و العلاقات و المفاهيم الإنسانية و الاجتماعية اللازمة , لتمكين العقل الإنساني و الإرادة الإنسانية من حمل مسؤولياتها , و ترشيد جهودها و تصرفاتها وفق الغايات المحدّدة لها في هذه الحياة , ولذلك فإن العقل و الوحي ضروريان و متكاملان , لتحقيق الحياة الإنسانية الصحيحة في هذه الأرض: والله أعلم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الخاتمة هذا ما تيسر في البحث عن مكانة العقل في الإسلام وهو جهد مقل فما كان من صواب فمن الله وما كان من خطأ أو نسيان فمن نفسي ومن الشيطان وقد ختمت بذا الختام بحثي وعلى الإله توكلي وثنائي ان كان توفيق من رب الورى والعجز للشيطان والأهواء في حينها أدعو الذي دعاؤه يمحو الخطأ ويزيد في النعماء سبحانك اللهم ثم بحمدك أستغفرك وأتوب من أخطائي واسأل الله لنا ولذوينا ومشايخنا ولجميع المسلمين العلم النافع والعمل الصالح وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين مراجع ومصادر البحث 1. القرآن الكريم 2. كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي , ص 181 , و لسان العرب لابن منظور , 3. لسان العرب , 11/ 458 , و انظر : الصحاح للجوهري , 4. الصحاح للجوهري , 5. كتاب العين للفراهيدي , 6. التفكير فريضة إسلامية , لعباس محمود العقاد , 7. التفكير فريضة إسلامية , لعباس محمود العقاد , . سلام بن عبد الله الباهلي الإشبيلي , 8. العقل و العلم في القرآن الكريم , أ.د / يوسف القرضاوي 9. عمال العقل , لــؤي صافي , 10. أساس التقديس , فخر الدين الرازي 11. درء تعارض العقل و النقل , ابن تيمية , 12. انظر : الصواعق المرسلة على الجهمية و المعطلة , ابن القيم , 13. القضاء و القدر في الإسلام , د/ فاروق الدسوقي , . 14. الصواعق المرسلة , ابن القيم , الفهرس خطة البحث .................................................. ....................... 1 مقدمة .................................................. ............................. 2 سبب اختياري موضوع مكانة العقل في الإسلام ....................................... 3 منهج البحث .................................................. ...................... 4 المبحث الأول : مـفـاهيـــم الـعـقـل المطلب الأول : مفهوم العقل في اللغة العربية :........................................ 5 المطلب الثاني : مفهوم العقل في القرآن و السنة ........................................ 6 العقل في القرآن الكريم : ........................................ .................... 6 المطلب الثالث : مفهوم العقل عند العلماء : ........................................... 11 المبحث الثاني : العـقـل في الإسلام المطلب الأول : العقل في القرآن الكريم : ............................................. 14 المطلب الثاني : التحسين و التقبيح العقليين ........................................ 18 المبحث الثالث : العقل و النقل و دعوى تعارضهما المطلب الأول : جذور الصراع بين العقل و النقل : .................................... 21 المطلب الثاني : دفع التعارض بين العقل و النقل : ...................................... 23 المطلب الثالث : تكامل العقل و الوحي : ............................................. 25 مراجع ومصادر البحث ........................................ ...................... 30 الخاتمة .................................................. .............................. 31 الفهرس .................................................. ............................ 32
??????? ??? ????
|
01-01-2013, 03:19 PM | #3 |
:: غــلا مـتـألـق ::
|
اخوي حسان
سلمت اناملك ولاتعبت يالغالي موضوع يستحق التقييم بالتوفيق |
??????? ??? ????
|
01-01-2013, 03:20 PM | #4 |
|
تسلم يالغلا جزاك اله الف خير ويعطيك ربي الف عايفه
على الموضوع الرائع والمميز لاعدمناك يارب مبدع دوم حسوون |
..... فيني دلع طفله ، وفيني عوآاابه .... |
01-03-2013, 05:03 PM | #5 |
عضو مهم
|
مشكوووووورين والله يعطيكم الف عافيه على المرووووووور الرائع
وشكل اصيل بيذبحني بحسان انا حسن افهموا |
|
03-12-2013, 11:49 PM | #6 |
:: غــلا مـتـألـق ::
|
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:50%;background-image:url('http://www.k-qlbi.com/vb/backgrounds/21.gif');border:5px groove deeppink;"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]
, [/ALIGN][/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN] |
??????? ??? ????
|
الكلمات الدلالية (Tags) |
مكانة, الإسلام, العقل, بحث, في |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
أدوات الموضوع | إبحث في الموضوع |
انواع عرض الموضوع | |
|
|